نية المؤمن خير من عمله..

عندما تُفرَّغ الأعمال من روحها، فإنها تصبح غايات دنيوية لا أهدافا للوصول إلى الغايات المرجوة من الإنسان، وتصبح الوسائل غايات وأهدافا.. وتتفشى المفاهيم الخاطئة مثل: أن تبرر الغاية الوسيلة

هل منا من لا يحب أن يكون سعيدا؟
هل منا من لا يبحث عن السكينة والطمأنينة؟
بالطبع كلنا نحب ذلك ونسعى لتحقيقه، لكن الحقيقة هي أن السعداء قليلون، والذين يملكون السكينة والطمأنينة قليل من القليلين.
إن سر السعادة والسكينة والطمأنينة يكمن فيما نملكه في داخلنا.. في ذواتنا أكثر مما نملكه في أيدينا. أصحاب العطاء يدّعون أن السعادة هي في العطاء لا في الأخذ وأن النية هي المطية.
عندما تكون النية خيّرة فإنها تجتذب إليها كل أنواع الخير، وعندما يمتلك الإنسان نيّة عمل الخير، فإن كل ما حوله يُجنّد ليعمل معه لإنجاح مهمته وتحقيق العمل لما فيه من خير ونفع للآخرين.
هذا مفهوم نجده سائدا حول العالم عبر القارات ومختلف الحضارات على الرغم من تنوع الديانات واختلاف الأعراف والعادات.
أتعرفون ما الذي يوجه حركة حاملة الطائرات يمنة ويسرة؟ نتوقع أنه شيء كبير يتناسب مع حجم السفينة الضخمة، لكن الحقيقة أنها ذراع لا تتعدى بضعة أمتار تحرك ذراعا أخرى أكبر منها لتغير وجهة سفينة ضخمة مثل حاملة الطائرات. وهذه الذراع تشبيه حسنٌ للنية في الإنسان.. مختبئة هناك في الأعماق.. بعيدة عن كل العيون، وفيها يكمن سر الكون والوجود، فيها يكمن سر جمع شتات النفس بتحديد الغاية والوجهة، وفيها يكمن سر السعادة والنجاح. وبها لا بغيرها تتحقق السكينة والطمأنينة والقبول والفلاح. سألت نفسي: كم من العمر نقضي وجُل همِّنا تحديد الأهداف والغايات وتلمس الوسائل لتحقيقها؟.
إن معظم أوقاتنا على المستوى الشخصي أو على مستوى العمل تصرف في تحديد الرؤية والرسالة والغايات والأهداف والوسائل.
كم من العلوم استحدثت لتعيننا على تعريف الأهداف والغايات؟ وكم من المعايير وضعت لمحاولة قياس مدى تحقيق هذه الأهداف والغايات؟ وكم من الجهود توضع في المؤسسات والشركات في محاولة تحقيق رسالة المؤسسة أو الشركة وتحديد الدور الذي يجب أن يقوم به أصغر موظف في المؤسسة لتحقيق الغاية المرجوة؟ وكم من برامج التدريب التي تقوم بها الشركات من أجل تجميع قوى العاملين نحو هدف واحد وغاية واحدة؟
ولكن مع كل هذا، كم من الجهود تبذل في تحري الدوافع والنيات؟
إن صناعة النية علمٌ لم ندرسه في المدارس أو الجامعات، وكانت من أهم العلوم التي حرص عليها الأوائل وطبقوها ومارسوها، فكانوا لا يرون أن يقدموا على عمل إلاَّ بنية، لعلمهم وتيقنهم بأن النية هي روح العمل وأن العمل بغير نية صادقة رياء وتكلف، وقد يكون سبب مقتٍ لا سبب قربٍ..
النية ليست كلمات يستهل بها المرء عمله ليعلن بها عن نيته للعمل، وإنما هي انبعاث النفس وتوجهها وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها إما عاجلا أو آجلا.
عندما تُفرَّغ الأعمال من روحها، فإنها تصبح غايات دنيوية لا أهدافا للوصول إلى الغايات المرجوة من الإنسان خليفة الله في الأرض، وتصبح الوسائل غايات وأهدافا.. وتتفشى المفاهيم الخاطئة مثل أن تبرر الغاية الوسيلة.. وتتحكم الأهداف والغايات المادية في تصرفات الفرد والمجتمع.. وتضيع روح الشرع والمقاصد العليا التي يبتغيها الشرع بضياع روح العمل.
إن النية هي الروح المتعلقة بالله، تضفي على الأعمال أرواحها وتربطها بحبال للسماء، وعلى قدر إصلاح النيات وإخلاص العمل، يكون حال الفرد والمجتمع، ويكون قبول الله للعمل وتوفيقه في حصول الغايات والأهداف.
وممن صدقت نياتهم.. عبادٌ اختارهم الله ليحملوا خيرا كُتب لهم أن يكون في الأرض على أيديهم، وأصبح أصحاب هذه القلوب بما امتلأت به من نيات صادقة يعرفون بما احتوت عليه أوعية قلوبهم وفاضت وأصبحت هَمٌّهم الشاغل، وعندئذ فقط يصبح حامل هذا القلب صاحب رسالة.. ويكون صاحب قضية.
تجد آثار سجود قلوب وجوارح أصحاب النيات الصادقة في محراب الحياة وعمارة الأرض ونفع الإنسانية أكثر مما تراه في غيرها من صور العبادات، فيكون الواحد منهم بمثابة المعنى الصحيح المتحرك العامل الذي يصحح الله به ألف معنى خاطئ قولا وفعلا.
النجاح والتمكين لا يأتيان هؤلاء المخلصين إلاَّ بعد ابتلاء واختبار وتمحيص، وتجري عليهم سنن وقوانين الزراعة والزراع من وضع بذرة الخير وتحمَّل أعباء رعايتها والصبر عليها حتى تنمو وتضرب لها جذورا عميقة في الأرض ليكون أصلها ثابتا وفرعها في السماء.. تثمر وتؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها.
أما بذرة الشر فقد تَهيج وتنفش سريعا وترتفع في السماء بلا جذور.. وما لها من قرار.
بل يؤمنون أن في كل نفس خلقها الله ذرات خير وبذور صلاح، وأن الشر الذي نراه منهم ليس كل ما فيهم، بل قد يكون محصورا على تلك القشرة الخارجية الصلبة القاسية التي يواجهون بها صلابة الدنيا وقساوتها، وبذلك هم يبحثون دائما عن ذرة الخير وبذرة الصلاح هذه بالوصول إلى ما وراء القشرة الخارجية، ويفرحون أيما فرح عندما يجدونها أو يصلون إليها في من لا يظن الناس فيهم إلاّ شرا، فهم لذلك يُغَلِّبون حُسن الظن بالناس في كل معاملاتهم، والواحد منهم ليس بالساذج أو الخب، بل وقد يكون من أدْهي الناس وأشدهم فطنة وذكاء.
على يد مثل هؤلاء يُجري الله الخير الذي كُتب في الأرض برعاية إلهية جلية أو خفية، وبسنن أرضية وسماوية، وكرامات وعطاءات ربانية.
عندما تخلص النية لوجهة واحدة، يصبح لكل أعمال الإنسان غاية واحدة، مثل السفينة التي تعرف مقصدها ومنتهاها فلا يتشتت مسعاها، وضرب الله مثلا رجلا سلماً لرجل، ورجلا فيه شركاء متشاكسون. وإنني لم أسمع بعد أن سفينة ليس فيها بوصلة؛ لأنها بدونها حتما ستضل الطريق.
ليتنا كبشر كما نحمل في يدنا اليسرى ساعة تهدينا للوقت، نحمل في يدنا اليمنى بوصلة تشير عقاربها للأعلى إن خلصت النية للسماء، وتشير للأسفل إذا كانت النية لدنيا نصيبها، ولنسمي هذه البوصلة بوصلة النية، فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.
صحيح أننا لا نمتلك مثل هذا النوع من البوصلة، لكنني أؤمن بأننا نستطيع صنع بوصلتنا الداخلية.. نعم نستطيع صنع هذه البوصلة، فصناعة النية علم. علمٌ أن تعرف كيف تغوص في أعماق نفسك لتسبر أغوارها وتستجوبها وتختبرها ثم تهذبها وتصححها وتقومها.. علم لم نتعلمه في المدرسة.
ليتنا نعلم أبناءنا أول ما نعلمهم هو كيف تصنع النية.
ليتنا نستحدث منهجا نسميه "منهج صناعة النية وتصحيحها"، فنية المؤمن خير من عمله.
إذا ردت أن تعيش الحياة بطولها وعرضها أضعافا مضاعفة على قدر مضاعفتك عداد المشاعر التي فيها والتي بها تقاس الحياة لا بعدد سنينها، وإذا أردت أن تملأ حياتك حياةً وسعادة ونفحة سماوية.. فأخلص النية لتكون صاحب رسالة وتصبح صاحب قضية.

الدكتور . وليد احمد فتيحي