و الرئيس يحيى جاميه أوهم عالم السياسة في القارة و خارجها بقبول خسارته في الانتخابات الرئاسية التي جرت في بلده و بنا أعلن عنه من الاستجابة لخيار أغلبية الشعب الغامبي و إذعانه لنتائج لصناديق الاقتراع متحليا في ذلك بحكمة الرشداء. و لم يدم الأمر وقتا طويلا حتى رجع فجأة عن قراره تسليم السلطة و طعن في مصداقية النتائج. لكن هذا التصرف الطائش ليس غريبا على أغلب قادة دول القارة الذين جاؤوا في معظمهم إلى دفة الحكم ممتطين ظهور المدرعات، ممسكين البنادق و ضاربين على الأرض بقوة الأحذية الخشنة.
و كان الرئيس الغامبي الذي خسر المعركة الديمقراطية قد أطفأ بتصرفه الأرعن فجأة بريق الحكمة الذي أضاء عقله لحظة بعد الخسارة ليسجل بعد ذلك بقليل نكوصه بالعهد في خانة العنجهية و رفض التناوب و وعي الشعوب و تجاهل سهر أعين العالم التي باتت مسلطة على كل الأحكام التعسفية في كل القارات، ترصد تململ الشعوب فيها و تحركها إلى فرض إرادتها و نيل حرياتها و إرساء الديمقراطية في بلدانها.
و هي شعوب الكثيرة عبر العالم التي باتت تتمتع في السنوات الأخيرة و على خلفية من قوة النضال المكتسبة و الثبات فيه تسجل مزيدا من الوعي بأهمية الديمقراطية و إدراك و تمييز و استغلال ما تتيحه من حرية الرأي و وجوب إحلال المساواة بين أفرادها و السعي إلى اختيار القيادات الأصلح لها عبر الانتخابات الشفافة، و هو التحول الذي جعل زعزعة الأحكام التعسفية و السلط الديكتاتوريات العسكرية الظاهر منها و الملتحف أثواب المدنية الزائفة أمرا شائعا تُطلق شرارته و تؤطره الإرادات و القيادات الشعبية الشجاعة الخيرة ذات النوايا الصادقة و الهمم العالية و تجسده عبر المطالبات الجريئة و المظاهرات المتلاحقة و الحركات الجماعية المنتظمة و القوى الشعبية المنخرطة في التيارات السياسية أحزابا و حركات و داخل منظمات المجتمع المدني و في أطر المبادرات التلقائية الحرة. و ما النتائج التي تحققت في أمريكا اللاتينية و آسيا و بشكل متلاحق و لافت داخل القارة السمراء في بوركينا فاسو و ساحل العاج و ما تتحدد و تتشكل ملامحه في دول حوض الكونغو الكبير ليصبح عما قريب درسا نافذا لكل الأحكام التي تجافي الديمقراطية و لا تستجيب لخيارات الشعوب و تتشبث بالحكم و لا تساوم فيه إلا أن تراوغ ثم تملي في الأخير إرادة بقائها.
و لأن مسار التحول إلى الديمقراطية ما زال يشهد بصعوبة إرهاصاته الأولى فإن المجاملات و الوساطة لا تزالان كذلك منهجا متبعا و مطلوبا مفروضا للتخلي عن الحكم حين تصل الأمور إلى انسداد و سبيلا متبعا لنجاة الحكام المتشبثين بتلابيب السلطة و كراسي الحكم و كأنهما قدا على مقاسهم لا يساومون فيهما إلى آخر لحظة.
و أما الحقيقة التي من المفروض بوجه المنطق و لزومية الشرع هو أن يخرج كل متسلط من الحكم و يمنع من يمنع من لم يعد مناسبا له و قد نبذه الشعب و أباه. و لأن عقليات شعوب القارة ما مازالت شبه محكومة ببعض عقليات ماضيها و سذاجتها فإن مجاملة و مداراة الأقوياء بقيت إرثا حيا من حقب الماضي الظلامية و حيفها التي كانت السائدة بشدة قبل مقدم الاستعمار و يتجلى في إطارها العديد من المظاهر البعيدة عن منطق الديمقراطية و سيادة العلم و المدنية و التحضر.
و مهما يكن و على الرغم من كل شيء فإن هذه الوساطة ما زالت تتضمن من دون شك و في أحد أبعادها المقصودة رغبة إنسانية حقيقية و دفينة مصدرها الإسلام إلي تجنب اندلاع العنف و عدم الاستقرار. و في هذا الإطار فقد تفشت في القارة عادة الوساطة من الزعماء و الوجهاء بين الخصوم للوصول إلى أقل الخسائر و أقرب المخارج.
و في الأزمة الغامبية توالت الوساطات من أعلى المستويات و حطت الوفود في بانجول لتجنب التصعيد و تدعم إقرار الحق. ولما لم تفلح كل هذه الوفود فقد قرر الرئيس محمد و لد عبد العزيز أن يبادر و يلعب في الوقت الحرج البدل الضائع ورقة الحظ الأخيرة قبل اللجوء إلى الحل العسكري الذي بات وشيكا بمقتضى المعطيات السياسية الأخيرة. و لا شك أنها أثمرت في جولة الثانية و قبل الرئيس الخاسر بالتنازل عن الحكم مقابل شروط ما زال يلفها الكتمان، و هو عمل جليل و سبق و تكليل ناجح لكل الجهود التي سبقت و لم تفلح مهما قال معارضوه.
و ككل الأزمات الحادة التي تعصف بدول القارة من حين لآخر يستفيض المحللون و الإعلاميون في التحاليل فيصيبون و يخطئون تارة، و ينصفون يربكون حتى ليخلقوا أزمات لم تكن موجودة في الأصل لتخلق منطلق أزمات جديدة، تارة أخرى. و إذ الأمر فقد كثر من هذه التحليلات التي ترهن بموجبها دولا لدول أخري و كأنها قطعة شطرنج. لكن الذي يبقى يقينا هو أن الدول في مساراتها الحتمية تمر بالتغيرات التي تحدث في وعي أو لا وعي أهلها الأمر الذي يشكل المنطلق الأول لما يجري تباعا بداخلها. و أما أن تكون للأنظمة بشخوصها ميولات سياسية و رؤى متمايزة في مجال العلاقات الخارجية و الاقتصادية ضمن إطار التبادل و التعاون المشترك فذاك أمر تسيره معطيات من نوع آخر لا قبل للقوة العسكرية و لا الأطماع التوسعية و لا التأثير المالي و الاقتصادي إن وجدا فيها. و كل ما في الأمر بالنسبة إلى دولة غامبيا أن يحيى جاميه الذي حكمها شابا منذ أكثر من عقدين لم يعد لديه ما يقدمه و أن الغامبيين في غالبيتهم عبروا عن رغبتهم في التغيير.
فلا السنغال تستطيع في ظل المواثيق الدولية و الأعين الرقيبة أن تضم غامبيا و لا أن توجه سياستها التي ستختارها حكامها الجدد و قد أراد قدرها أن تكون دولة قائمة بذاتها و لو في خاصرة السنغال، و لا لموريتانيا عليها من تأثير إلا ما يكون بالعلاقات المتبادلة في الاحترام و بالتعاون المثمر و ليس بقوة موقع أو تأثير اقتصادي أو علمي كما يدعي البعض حيث أن موريتانيا و السنغال لا تملكان في واقع حالهما ما تؤثران به إلا أن تنهجا سبيل العلاقات الحسنة و التبادل المثمر البناء.